تستذكر الأمتان العربية والإسلامية في هذا الوقت من كل عام، جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك صباح يوم الخميس (21-8-1969) على يد المجرم (مايكل دنيس روهن)، الذي ينتمي إلى كنيسة مسيحية صهيونية، وقيل عنه إنه يهودي أسترالي الجنسية، وشاركه مجرمون آخرون لم يُكشَف عن هويتهم، فيما وجهت الهيئة الإسلامية العليا حينئذ الاتهام بشكل مباشر لسلطات الاحتلال وحملتها المسؤولية عن الجريمة النكراء، سيّما أنها أغلقت ملف منفذ الجريمة بذريعة أنه “معتوه”!
وفي هذه الذكرى الأليمة التقت “ے” الشيخ عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى، الذي كان شاهد عيان على ألسنة الحريق وهي تتصاعد من المسجد الأقصى في العام 1969، وعلى مكبرات صوت المسجد وهي تصدح بدعوة السكان للمساعدة في إطفاء الحريق، وحينها كان يعمل مدرساً في ثانوية الأقصى الشرعية الموجودة داخل المسجد، وكانت المدرسة في عطلتها الصيفية.
وروى الشيخ صبري لـ”ے” و”القدس” دوت كوم، تفاصيل جديدة ودقيقة للجريمة النكراء في ذكراها الخامسة والخمسين، وقال: “كانت الساعة قرابة السابعة صباحاً من يوم 21 من آب 1969، شاهدنا من بعيد ألسنة النيران وهي تتصاعد من منطقة المنبر في المسجد القبلي المسقوف، وبالتزامن كانت مكبرات في المسجد تستنجد بالمواطنين”.
وأضاف: “كنت أسكن في حي وادي الجوز، القريب من المسجد، وهرعت، كما خرج جميع الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً وكبار سن، إلى المسجد لإطفاء الحريق”.
وتابع الشيخ صبري: “بداية تمت محاولة إطفاء الحريق بطرق بدائية، حيث اصطف الناس في صفوف لنقل التراب في محاولة لإطفاء الحريق الذي أتى بدايةً على منبر صلاح الدين الأيوبي.. كان الناس ينقلون التراب والمياه من رجل إلى آخر وصولاً إلى منطقة الحريق، وكان الغضب ظاهراً على وجوه المواطنين، وكانوا ينقلون التراب وهم يهللون ويكبرون ويبكون على الأقصى ويهتفون ضد الاحتلال”.
وأوضح الشيخ صبري أن “الوضع استمر على هذه الحال حتى وصول سيارات الإطفاء من مدن الخليل وبيت لحم ورام الله، في الوقت الذي عرقلت فيه قوات الاحتلال وصول سيارات الإطفاء من مدينة القدس”.
وقال: “حينما وصلت سيارات الإطفاء كانت النيران قد أتت على الجزء الشرقي من المسجد، سقفه وأروقته ونوافذه، إضافة إلى المنبر والمحراب والسجاد والمصاحف”.
وبالرغم من أن سلطات الاحتلال أعلنت القبض على المسؤول عن إضرام الحريق وتوجيه الاتهام إلى مايكل روهان اليهودي أسترالي الجنسية بالمسؤولية، فإن الشيخ صبري يؤكد أن “من قاموا بالحريق هم أكثر من شخص لأن الحريق نشب في أكثر من موقع في المسجد الأقصى وانتشر بسرعة”.
وأكد الشيخ عكرمة أن المواد التي استُخدمت في الحريق لا تباع في الأسواق، حسب ما قال خبراء وإنما تملكها الدول، وقال : “كانت المواد شديدة الاشتعال، هذه مواد لم تتوفر في الأسواق، ولم تكن بحوزة أفراد، هذه المواد لا توجد إلا لدى الجيوش والدول، وبالتالي فإن سلطات الاحتلال هي المخططة للحريق، وهي التي زودت المجرمين لتنفيذ جريمتهم، وإن الذين قاموا بالجريمة هم مجموعة وليس شخصاً واحداً”.
وأضاف: “لكن الذي ألقي القبض عليه هو واحد، وهو المدعو مايكل دينيس روهان، وقيل إنه أسترالي الجنسية، فإن كان هو أسترالياً بمعنى أنه أجنبي، فكيف حصل على هذه المواد، ولماذا جاء للتنفيذ؟ ومعنى ذلك أن الأمر خُطط له ودُفع لأن يقوم بهذه الجريمة النكراء”.
وتابع الشيخ صبري: “الذي يؤكد أيضاً أن الذين قاموا بالعمل أكثر من شخص أن مواقع الحريق كانت متعددة، ولكن المجرم بدأ باستهداف المنبر الذي يرمز إلى تحرير مدينة القدس”.
وذكر الشيخ صبري أن الحريق وقع يوم خميس، وتم إغلاق المسجد يوم الجمعة بهدف التنظيف من آثار الحريق، وبالتالي لم تُقَم صلاة الجمعة، لافتاً إلى أن الهيئة الإسلامية العليا عقدت في يوم الحريق نفسه مؤتمراً صحفياً وجهت فيه الاتهام إلى السلطات المحتلة بالمسؤولية عن الحادث.
وأضاف: “عند صلاة العصر، حمل السكان ما تبقى من منبر صلاح الدين المحترق وتظاهروا ضد سلطات الاحتلال”.
وبعد مماطلة لاحقاً، قضت محكمة الاحتلال بعدم أهلية روهان العقلية، قبل أن تبعده إلى أستراليا عام 1974، وأعلنت وسائل إعلام أسترالية وفاته عام 1995.
وأضاف الشيخ عكرمة: “لاحقاً تم وضع ساتر من الطوب لمنع الناس من الوصول إلى منطقة الحريق، وكانت الصلوات تقام خلف منطقة الطوب وبقي الأمر على هذه الحال فترة من الوقت حتى إتمام عملية التنظيف والشروع في الترميم”.
وما تبقى من منبر صلاح الدين إلا بقايا الحريق، موجود حالياً في متحف خاص داخل المسجد الأقصى.
وعلى مدى سنوات طويلة، انشغلت طواقم دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، بعمليات ترميم واسعة للمسجد.
واشتكت دائرة الأوقاف (المسؤولة عن إدارة شؤون المسجد) من تدخلات الشرطة الإسرائيلية في أعمال الترميم ومحاولة عرقلتها.
ومطلع العام 2007 تم تركيب منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى، وهو بالمواصفات والمقاييس ذاتها للمنبر المحروق، وتم صنعه في جامعة البلقاء التطبيقية في الأردن على نفقة الملك عبد الله الثاني.
وبحسب تصريح مكتوب صدر عن الديوان الملكي الأردني آنذاك، فإن “التحدي الكبير الذي واجه الحرفيين والمهندسين المشرفين على هذا العمل، هو تجميع 16٫500 قطعة، بعضها لا يتعدى طوله المليمترات القليلة في بناء فني طوله ستة أمتار، دون استخدام مواد تثبيت من صمغ أو مسامير أو براغٍ أو غراء”.
وأضاف: “تم استخدام طريقة التعشيق لإنتاج ما يمكن تسميته بفن المنبر الذي تمثل في فنون الزخرفة الهندسية والزخرفة النباتية والخط العربي والمقرنصات والخراطة والتطعيم بالعاج والأبنوس والتعشيق، وهي الأنماط الستة الرئيسية المكونة للفن الإسلامي”.
وأوضح الشيخ صبري أن والده الشيخ سعيد صبري كان آخر خطيب يقف على المنبر الأصلي، في حين كان هو أول خطيب يقف على المنبر الجديد بعد وضعه بالمسجد عام 2007″.
وأضاف: “ما بين المنبرين، كان هناك منبر بسيط، مصنوع من الحديد، وله درجتان تم وضعه مكان المنبر الأصلي (بعد حرقه)”. ولكن الاعتداءات على المسجد الأقصى لم تتوقف عند حد إحراق المنبر والواجهة الشرقية للمسجد القبلي المسقوف.
وفي هذا الصدد، يقول الشيخ صبري: “الحرائق مستمرة بالمسجد الأقصى، ولكنها بأشكال متعددة، منها: الاقتحامات من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة، ومنها الحفريات، ومنها التضييق على أعمال الترميم بالمسجد والتصريحات الاستفزازية المثيرة لمشاعر المسلمين، ومنها أيضاً الإبعادات (عن المسجد) والاعتقالات للمصلين والمرابطين والمرابطات”.
ويكمل الشيخ صبري “كلها حرائق خطيرة، ولذلك فإنه من واجبنا في كل عام أن نستذكر هذا الحريق لنُذكّر العالم أجمع أن المسجد الأقصى ما زال في دائرة الخطر، في ظل استمرار الأطماع الإسرائيلية بالمسجد”.
الحرائق متلاحقة ومستمرة
بدورها، قالت الهيئة الإسلامية العليا القدس في بيان لها، أمس: “إن الهيئة تحيي هذه الذكرى المشؤومة سنوياً، لتوعية الأجيال الصاعدة التي لم تحضر هذه الجريمة الأليمة، فيما لا تزال الحرائق متلاحقة ومستمرة بحق الأقصى المبارك وبصور متعددة: من اقتحامات عنصرية غوغائية من الجماعات والأحزاب اليهودية المتطرفة، وبدعم مباشر من الحكومة اليمينية، ومن الجيش الإسرائيلي بملابسه العسكرية أيضاً، ومن الحفريات التي تهدد أساسات المسجد القبلي الأمامي من الأقصى المبارك وتدمر الآثار الإسلامية حوله”.
ولفتت الهيئة إلى التصريحات الخطيرة المتكررة في هذه الأيام على ألسنة مسؤولين في حكومة الاحتلال، وأعضاء كنيست، تمس حرمة الأقصى المبارك بشكل مباشر، وتكشف أطماع الاحتلال ومجموعاته المتطرفة بالمسجد الأقصى المبارك، التي تدعي زوراً وبهتاناً أن المسجد الأقصى مقام على أنقاض الهيكل المزعوم، وأنهم يخططون لإقامة كنيس لهم في رحاب المسجد الأقصى.
وحذت الهيئة من مساعي سلطات الاحتلال “لسحب الصلاحيات الإدارية من الأوقاف الإسلامية، وبسط السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك أيضاً، وتغيير الواقع التاريخي له”.
وإزاء ذلك، أوضحت الهيئة الإسلامية العليا أن مساحة المسجد الأقصى المبارك، كما هو معلوم، مئة وأربعة وأربعون دونماً وتسعمائة متر مربع (الدونم الواحد ألف متر مربع)، فيشمل المسجد القبلي الأمامي، والمسجد الأقصى القديم، ومسجد قبة الصخرة المشرفة، والمصلى المرواني، ومصلى باب الرحمة، ومصلى البراق، وكذلك المواقع غير المسقوفة كالمساطب واللواوين والأروقة والممرات والآبار والبوابات الخارجية وكل ما يحيط بالأقصى من الأسوار والجدران الخارجية، بما في ذلك حائط البراق، فهي كلها المسجد الأقصى المبارك”.
وقالت: “إن هذا المسجد المبارك هو للمسلمين وحدهم بقرار من الله عزّ وجل من فوق سبع سماوات، وليس بقرار من مجلس الأمن ولا بقرار من هيئة الأمم المتحدة، وهو يمثل جزءاً من إيمان ما يزيد عن ملياري مسلم في العالم إلى يوم الدين”، مشيرة إلى أنه “لا علاقة لغير المسلمين بهذا المسجد لا سابقاً ولا لاحقاً، كما لا نُقر ولا نعترف بأي حق لليهود فيه”.
وأكدت الهيئة استنكارها ورفضها “الاعتداءات التي يقوم بها الإسرائيليون من الاقتحامات المتوالية لرحاب الأقصى، التي هي جزء منه، وإقامة صلوات تلمودية”، في حين استنكرت أيضاً تدخل سلطات الاحتلال في إدارة الأقصى.
كما أكدت استنكارها ورفضها الحفريات والأنفاق التي تجريها دائرة الآثار الإسرائيلية تحت الأقصى وفي محيطه، ما أدى إلى تصدع حائط البراق، وعدد من المباني الأثرية والتاريخية في محيط الأقصى المبارك، وفي بلدة سلوان أيضاً.
وثمنت القرارات التي أصدرتها منظمة اليونسكو مؤخراً، ومنها أن الأقصى المبارك خاص للمسلمين وحدهم، ولا علاقة لليهود به، وأن مدينة القدس مدينة محتلة، وأن إجراءات سلطات الاحتلال بحق المدينة هي إجراءات باطلة وغير قانونية، مع الإشارة إلى أن مدينة القدس تم وضعها على قائمة التراث العالمي الـمُعرّض للخطر في ظل الاحتلال منذ عام 1981.
وقالت الهيئة في بيانها: “سيبقى المسلمون متمسكين بالمسجد الأقصى المبارك الذي هو جزء من إيمانهم وعقيدتهم، وسيستمرون في إعماره وفي الدفاع عنه، ولا تنازل عن ذرة تراب منه، ولا نزال نطالب باستمرار استعادة مفاتيح باب المغاربة (أحد الأبواب الخارجية للأقصى المبارك) التي سيطر عليها جيش الاحتلال منذ عام 1967”.
وأضافت: “سيبقى صوت الأذان مرتفعاً فوق مآذن الأقصى ومآذن مساجد فلسطين الأُخرى.. هذا الأذان الذي أول من رفعه في جنبات الأقصى هو الصحابي الجليل بلال بن رباح –رضي الله عنه- مؤذن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك عام 15هـ/ 636 حين فتح بيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه”.
وأكدت أن “المسجد الأقصى أسمى من أن يخضع لقرارات المحاكم ولا الحكومات، وهو غير قابل للتفاوضات ولا المقايضات ولا التنازلات، كما أن الأقصى غير خاضع للبيوعات”.
ودعت الهيئة الحكومات في العالم العربي والإسلامي أن تتحمل مسؤولياتها تجاه القدس والأقصى المبارك، وأن تتدارك الموقف قبل فوات الأوان، فيما حثت على شد الرحال إلى الأقصى المبارك بشكل مستمر.