قبل 31 عاما؛ وقع اتفاق “أوسلو” الذي كان من المفترض أن يكون بمثابة “اتفاق سلام” مؤقت، بين الاحتلال والفلسطينيين، الذي عمل رئيس وزراء الاحتلال في حينه إسحاق رابين بقوة من أجل التوصل إلى اتفاق مؤقت مع الوفد الفلسطيني المفاوض.
كان رابين مدفوعا بدوافع سياسية إلى درجة كبيرة عندما وقع اتفاق أوسلو، أولها تعهده في انتخابات عام 1992 بالتوصل إلى اتفاق سياسي مع الفلسطينيين خلال تسعة أشهر، بالإضافة إلى رؤية رابين الأمنية التي رافقته من عصابة البالماخ، والسنوات التي قضاها وزيرا للحرب في الثمانينيات والتسعينيات، وخضوعه لتحول حقيقي خلال حرب الخليج.
ووفق خبراء ومحللين، فإن رابين اعتقد أن اتفاق أوسلو من شأنه الحفاظ على الدعم الأمريكي، حتى في التعامل مع إيران التي شكلت له التهديد الاستراتيجي الرئيسي، ما يتطلب تقديم تنازلات في القضية الفلسطينية، كما أن تعرض تل أبيب لإطلاق الصواريخ خلال حرب الخليج أقنعته بأن الجمهور الإسرائيلي لم تعد لديه القدرة العقلية على تحمل المواجهة المستمرة مع الفلسطينيين.
أما الدافع الثالث أمام رابين لعقد اتفاق كأوسلو، فهو حقيقة أن رابين لم يقدر أبدا أهمية قطاع غزة، التي رآها مكانا الأفضل التخلص منه، بالإضافة إلى رؤية رابين في الاتفاق تجربة تضمن عدم إهمال السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، مقترحا فصل بين ما هو مكتوب على الورق، وكيفية تنفيذه، ووفقا لكتاب إسرائيليين، فإنه قبيل توقيع الاتفاق، كان من الممكن أن تسقط حكومة الاحتلال بعدما أوشك حزب شاس على الانسحاب من الحكومة دون تحقيق “إنجاز”.
وشهدت الفترة الممتدة بين عامي 1987 و1993 اندلاع الانتفاضة الأولى، عندما صدمت شاحنة إسرائيلية عدداً من الفلسطينيين في غزة وقتلتهم، فتفجرّت على الفور احتجاجات غاضبة، ثم اتسع نطاقها لتتحول في وجه قوات الاحتلال انتفاضة فلسطينية، وردّت قوات الاحتلال الإسرائيلية على مجموعات الشبان رماة الحجارة بالضرب وحظر التجول والاعتقالات الجماعية واستخدام القوة القاتلة، إلا أنها فشلت، وأصبح واضحاً لإسرائيل أن أساليبها التقليدية للسيطرة على الفلسطينيين فاشلة، كما بات الجمهور الإسرائيلي يعي بشكل متزايد التكاليف المالية والاستراتيجية الباهظة التي تنتظره لحكم شعب كالفلسطينيين.
وفي الفترة ذاتها، عملت “إسرائيل” على إبعاد أكثر من 400 من النشطاء في حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان، ما يؤكد بأن المطلوب لحل جدي للقضية الفلسطينية يتجاوز الاتفاقات التي أبرمت بالخصوص.
طوفان الأقصى
شكلت معركة طوفان الأقصى نموذجا لفشل اتفاق أوسلو وأكدت أن أوسلو ماتت ودفنت في رمال قطاع غزة، حيث شكلت هذه الرمال وحلا لجنود الاحتلال وكل الاتفاقيات المبرمة مع الاحتلال الذي حاول تغيير مسار القضية الفلسطينية بأوسلو.
وأدخلت معركة طوفان الأقصى منذ السابع من أكتوبر 2023، القضية الفلسطينية والشرق الأوسط في مرحلة جديدة، وسجلت نقطة فاصلة في تاريخ الفلسطينيين وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الإقليمي والدولي بعدما مسحتها أوسلو على مدار ثلاثة عقود، حاول خلالها المفاوضون الفلسطينيون والاحتلال الإسرائيلي إنهاء درب الكفاح المسلح.
وعلى الرغم من انخراط السلطة الفلسطينية في اللقاءات مع الإسرائيليين عقب أوسلو وحتى اليوم، وهو ما شكل أحد دوافع بعض الدول العربية للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن طوفان الأقصى أعادت البوصلة إلى مكانها وأحدثت تغييرات كبيرة على المستوى المحلي والعربي والدولي، ووضعت خطوطا عريضة بأن هناك شعبا تحت احتلال يجب أن تحل قضيته وبشكل جذري، كما أكدت أن الفلسطينيين متمسكون بالثوابت والصمود الأسطوري.
وبطوفان الأقصى، اختفت الآمال التي كان يراهن عليها كثيرون من إمكانية تحقيق “سلام” دائم بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، ووضع الطوفان الاحتلال الإسرائيلي في موقع ضعف وفشل كبيرين، بعدج الفشل المدوي في السابع من أكتوبر وما بعده.
وراهن الإسرائيلي ومن خلفه الأمريكي، على مدار أعوام مضت، على صناعة الفلسطيني الجديد، بقبول التعايش مع الاحتلال الإسرائيلي، وفق عقيدة كلمة سرها حماية “أمن إسرائيل” على حساب الحق الفلسطيني وحق تقرير المصير، ولكن هذا الرهان فشل، وخرج في النهاية فلسطيني يحمل السلاح في وجه الاحتلال على امتداد فلسطين المحتلة.